منذ باكورة فجر تاريخ الولايات المتحدة الأميريكية، والذى بدأ بالأمس القريب جدا، و سياسيتها البلطجة وبناء الأبراج على جثث العظماء... لقد اعتاد قواد ومؤرخو أميريكا الضخام (لا ذوى الفخامة) أن يصفوا عدوهم الذى انتصروا عليه بقمة العظمة والذكاء والقوة وأن يمجدوه... الأمر الذى ينعكس إيجابا على صورة المنتصر... بالطبع سيعنى ذلك أنهم أعظم، وأذكى وأقوى وأجدر بالتمجيد... وهو مالايعدو أن يكون نرجسية يصاب بها المراهقون الذين لا تنتهج أسرهم منهجا سليما فى تربيتهم، فتدفعهم أمراضهم النفسية وسوء أدبهم لتعريف أنفسهم من خلال الآخرين...
قرأت رسالة سياتل، وأصابتنى حُمى النص... فطفقت أقرأها وأعيد قراءتها وأتصل بمؤلفين وكتاب من أميريكا الجنوبية حتى دارت حوارات عديدة بينى وبين الكاتبة ماريا فيشنجر وأمدتنى بمعلومات قيمة حول الموضوع، فقمت بدراستها وترجمة معظمها، وسأقوم بنشره من خلال مدونتى على فصول، أفضل أن يكون أولها التعريف بالرئيس سياتل، ومكانته بين قبائل الهنود الحمر التى كان يرأسها، وكذلك الإطار التاريخى الذى وردت فيه الرسالة. ولعل من يقرأ الرسالة و ما يحيط بها من إطار تاريخى، يعرف حقيقة حجم عصابة كالولايات المتحدة الأميريكية، التى تقفز على الحضارات، وتنتهك الإنسان، وتمتهن الكرامة، ولا تعترف إلا بنفسها التى فى الحقيقة قد نمت من الرمم... ولا تزال كالكلب العقور... يهيج بين الناس كالثور ولا يسلم من فكه مسالم ولا محارب...
سأكف هنا أنا عن الكلام، فلن أقول أكثر مما قيل فى أميريكا، ولكن دعونى أقدم لسياتل (ترجمة لما أمدتنى به الكاتبة ماريا فيشنجر).
من هو الرئيس سياتل؟
الرئيس سياتل هو ابن السيد
سشويابى، أحد نبلاء قبيلة سوكواميش دى أجاتى باس، وأمه السيدة شوليتثا، من قبيلة
دواميش من جنوب نهر "جرين ريفر". وحسبما تؤرخ بعض الدراسات فإنه يُعتقد
أن سياتل قد وُلد فى عام 1786 فى جزيرة بلاك أيلاند، وهى جزيرة صغيرة تقع فى الجنوب
من جزيرة برينبريدج. وقد مات سياتل فى عام 1866، فى جراء الأوبئة التى جلبها
الوافدون الأوربيون، والتى قضت تدريجيا على السكان الأصليين.
كان سياتل رئيسا لست قبائل
وهو بين العشرين والخامسة والعشرين من عمره، وقد ظل رئيسا لهذه القبائل حتى وافته
المنية.
تم تعميد سياتل من قِبل
الكنيسة على أيدى قسس مقيمين بالدير، وقد تم تسجيله فى سجلات الكنيسة باسم نوح
سياتل، كذلك تم تعميد أبنائه إلا واحدا كان قد توفى قبل هذا التعميد. ظل سياتل
المتحدث الرسمى باسم القبائل التى يرأسها والقبائل الأخرى من الهنود الحمر التى
كان رؤساؤها يفوضون سياتل فى التحدث باسمهم وإبرام الاتفاقيات مع الوافدين
الأوربيين نيابة عنهم، وقد بدأت هذه المفاوضات فى (1854) وأسفرت عن توقيع اتفاقية
بوينت إليوت –موكيلتيو سنة (1855) والتى نصت على أن يقوم الهنود بتسليم مليونين
ونصف مليون فدان من الأرض لحكومة الولايات المتحدة، أن يتم تعيين حدود محمية تعيش
فيها قبائل السوكواميش.
كان الزعيم سياتل صديقا
للأوربيين، إلا أن التدفق المحموم للحملات الأوربية الباحثة عن الذهب قد استولت
على بلاده. ألقى سياتل هذا الخطاب البديع أمام إسحاق ستيفن حاكم واشنطن، بعد توقيع
اتفاقية بورت إليوت، والتى اضطر الهنود لقبولها خوفا من أسلحة الوافدين الأوربيين،
وحقنا لدمائهم، وقد سلموا بموجبها أراضيهم للأمريكان، وتم احتجازهم فى محمية.
حسبما
ذكر الدكتور سميث فى تعليقاته على خطاب سياتل كما ورد فى مدونة "صن داى ستار
سياتل" حيث يقول "... حتى فترة قريبة كان الهنود يعتقدون أن جورج واشنطن
لا يزال حيا، كما أنهم كانوا إذا ذُكر أمامهم اسم واشنطن، فإنهم يخلطون بين كونه
اسما لرئيس واسما للمدينة. كانوا أيضا يعتقدون أن الملك جورج لا يزال ملك إنجلترا،
وذلك لأن تجار خليج هودسون كانوا يطلقون على أنفسهم اسم "رجال الملك
جورج". ولذلك فإن سياتل حين يوجه كلاما للرئيس جورج واشنطن، فى خطابه، فله
عذره.
تم
نشر هذه الوثيقة للمرة الأولى سنة 1877، أى بعد 22 سنة من تاريخ إلقاء الخطاب.
وتعتبر ترجمة هنرى سميث هى الأقرب والأكثر أمانة فى نقل كلمات سياتل.
يقول
الدكتور سميث أن العجوز سياتل هو أكبر وأعظم شخصية رآها بين الهنود، وهو أكثر
زعماء الهنود له مظهر النبلاء الحقيقيين. وكان طوله حوالى ست أقدام يعلوها فوق
حذائه التقليدى الذى يخلو من الكعب. كما كان عريض المنكبين ذو صدر قوى، ومظهر
مهيب. عيناه الواسعتان ذكيتان ومعبرتان، وعندما كان يصمت، كانتا تعبران عن مشاعر
حقيقية مختلفة تنم عن نفسه العظيمة التى تطل من خلالهما. كان بشكل عام رجلا ذا
هيبة واحترام وصمت، إلا أنه فى الخُطوب الجليلة كان يتحرك بين الجموع كالعملاق بين
الأقزام الضعاف.
عندما كان سياتل يقوم ليتحدث فى المجلس، فإنه كان يظل
مُحاطا بالهيبة، تعلق به العيون، تخرج عباراته البليغه العميقة الرنانة من بين
شفتيه كالشلال الذى لا يتوقف، لا يسيل منه الماء، وإنما الرعد. وكان له مظهر
النبلاء، كما أنه كان يعتبر زعيما حربيا متحضرا، مقارنة بكل قوات القارة قاطبة.
فلم تكن بلاغته ولا هيبته ولا احترامه أشياءً مكتسبة، وإنما على العكس تماما، كانت
كلها صفات شخصية رجولية متأصلة فى سياتل.
كان لسياتل تأثير عظيم على الهنود الحمر، كان بإمكانه
أن يكون إمبراطورا، إلا أن تصرفاته الديمقراطية وحكمه فى رعاياه بالعدل والخير
حالا دون ذلك. كان سيتيل أيضا ودودا وواعيا مع الأوربيين، وبخاصة فى ساعة الالتفاف
حول مائدة المفاوضات، فقد كانت له أخلاق فارس. كان رجلا ساميا، له شخصية قوية،
وكان كفيلا أن يؤجج مشاعر أتباعه بخطاب يصل بمعانيه إلى أعماقهم. استطاع أن يستوعب
هدف الغزو، وسعى –دون جدوى- لإيجاد طرق أخرى تحقق مصالح شعبه، فقد حبذ ورحب
بانتقال الأطباء ورجال الصناعة إلى أرضه، إلا أنه لم يكن أمامه إلا طريقا واحدا محتوما
دفع به إليه الوافدون الجدد.
كان الهنود الحمر متجمهرين عند الخليج –خليج هودسون-،
وكانت المراكب تحاصر الشاطئ، وكانت الجموع على الشاطئ يغطيها الغبار من كثرة
حركتهم، حتى انطلق صوت سياتل المهيب فيهم فتحولت الجَلَبةُ إلى صمت والحركة إلى
سكون، فصار الشاطئ والخليج كالسماء الرائقة بعد سكون الرعد.
بعد أن قام الحاكم مينارد بتقديم الرئيس سياتل
للجموع، وأخبرهم أن له كلمة سيلقيها، سكت الجميع انتظارا لما سيقول سياتل. فقام
سياتل باحترامه وهيبته، وعليه سمات الحكيم المدرك للمسؤلية التى تقع على كتفيه
تجاه شعبه العظيم. وضع يدا على رأس الحاكم مينارد وأخذ يشير بسبابة يده الأخرى إلى
السماء فى هدوء، ثم انطلق يلقى خطابه البديع فى روعة وثبات.

لقد صارت الجملة الحكيمة التى قالها سياتل "... تنتهى
الحياة ويبدأ البقاء" حكمة نبوية لدى الهنود، وخرطت صفة الحكمة على ابنة
سياتل من بعده. ففى حوالى عام 1890 فى مدينة سياتل نفسها، قام المصور الأمريكى
إدوارد س. كورتيس، بالتقاط أول صورة فى تلك السلسلة من الصور التى حققت شهرة عظيمة
فيما بعد فى مجال اهتمامه، الذى كان ينصب على تناول القبائل التى فى طريقها
للانقراض بعد زوال حضارتها. وكانت الصورة المثالية من هذه المجموعة هى صورة
الأميرة أنخلينا، ابنة سياتل، والذى سميت المدينة باسمه تعظيما له. تلك الأميرة
التى أهلكها الهرم والحزن، قبلت بتواضع الدولار الذى قدمه لها المصور كورتيس على
سبيل الشكر على موفقتها لمنحه فرصه التقاط هذه الصورة لها. ولو أننا استوعبنا
مضمون رسالة الرئيس سياتل، لرأينا فى الأميرة أنخلينا التى جلست أمام عدسة
الكاميرا دون أى أمل فى الحياة مثالا مؤلما للبشرية جمعاء.
مقاربة تاريخية
فى منتصف القرن التاسع عشر، بلغ زحف المحتلين
الأمريكان مالا يمكن أيقافه، فسقط السكان لأصليون من الهنود، أمام الجيوش
الأميريكية بسبب غرقهم فى الحروب والخلافات الداخلية، وهزيمتهم العسكرية مرة تلو
الأخرى. كما أنهم قد خنقتهم خلافاتهم وأهلكتهم الأوبئة التى حلت ببلادهم مع وصول المحتلين،
فواجه الهنود الحمر الانقراض كمصيرمحتوم. ومن هنا تولدت أسطورة الغرب البائد. وقد
أكد السكان الأصليون لما يعرف الآن بمدينة واشنطن، أن هزيمتهم العسكرية أمام
الجيوش الأمريكية انتهت باستسلام الهنود الحمر اتخذ شكلا سياسيا أسموه معاهدة
بوينت إليوت للسلام سنة 1854.وقد جرت مراسم المعاهدة بين زعيم الهنود الحمر سياتل، وكان زعيما لست قبائل هندية، وحاكم الدولة إسحاق آى. ستفينز.
لا تهمنا فى هذا الصدد قصة الرئيس الأميريكى فى
احتلال أراضى الهنود الحمر وتحديد أراضيهم فى مجرد محمية، لأنها ببساطة لا تعدو أن
تكون مجرد اتجاه إجبارى سلكه بصفته ممثل السلطات الاقتصادية والاجتماعية للمهاجرين
الأوربيين فى تلك الفترة، وقد كانت بلاده تمر بطفرة اقتصادية لا بد لها من أن تسير
قدما، ولكى يتقدم المسير، كان لا بد من استغلال كل شبر من الأراضى المحيطة.
كان موقف الرئيس سياتل شديد
الحرج حيال هذه الاتفاقية، فهو كما ورث النبل والشرف عن أبيه السوكواميشى، وأمه
الدواميشية، وصار رئيسا لست قبائل فى الشمال الغربى لأميريكا، والجنوب الغربى
لكندا، فقد ورث أيضا الموقف السياسى الشديد الحرج، الذى أجبره على توقيع هذه
المعاهدة والتى كانت الطريق السلمى لقبول الإبادة المؤكدة فى صمت وهدوء، وقد أهله
ذكاؤه أن يدرك أن الأمر ليس اختيارا، وأن الاستسلام لا يعنى الإبادة الفورية، ولكن
يعنى قبولها فى إطار مجتمعى مقبول وعلى مدى طويل بصورة أكثر بطأً. وقد تجلت هذه
الفكرة فى خطابه حين قال لا يهمنا كثيرا أين سنمضى
بقية أيامنا. فهى على كل حال قليلة. ليل الهندى يتوعده بسواد أحلك" وأيضا "لم
تبق إلا أُهِلَةُ قليلة، شتاءات قليلة، ولن يبقى أحد من سلالتنا على قيد الحياة."
اعتبارات
حول الرسالة
توضح الرسالة الوضع
الحقيقى للإنسان فى الطبيعة، حيث يؤكد سياتل على أن الإنسان ليس هو خالق الطبيعة
كما أنه لا يملكها، فهو مجرد خيط فيها، لا يحق له التصرف فيها تصرف المالك، وإنما
يجب أن يكون تصرفه من منطلق المسؤلية الواعية والمدركة لدوره فى الطبيعة، فهو مجرد
شريك للكائنات من حوله، وليس مالكا لها.
أيضا يحذر سياتل من الغرور
بنمو الحضارة ونضجها، فهو لا يعنى الوصول لقمة لا مهبط منها، وإنما تستوى وتستتب
الأمور لفترة ثم يبدأ تداول الأيام، ليسقط القوى ويحمل اللواء من بعده من كان
ضعيفا، وهو ذات ماحدث مع حضارة الهنود، كانت أكثر خصوبة وكان لها من الآمال
والطموحات والمستقبل ما يفوق الحضارة الأوربية، ولكن بوصول المحتلين الأوربيين
أُبيدت حضارة الهنود الحمر ودخلت فى طريق الانقراض، الطريق الذى سيطوى صفحتها
بالنسيان، لتقوم حضارة أخرى وتترعرع على نفس الأرض، طامسة كل ما يمت بصلة للقديم،
ومنشئة ما تؤمن به، تطمس الغابات، والطبيعة، وتشق بطن الأرض بحثا عن الذهب. تطمر
المروج وتنشئ المدن، وتشد شبكة الأسلاك التليفونية والكهربية فوقها، وتقتل
الحيوانات، لينطلق القطار. ولكنه يؤكد أيضا على أن العلاقة بين الإنسان والطبيعة
علاقة وثيقة، وأن إفساد الطبيعة هو إفساد للإنسان أيضا.
ويحلل سياتل أيضا عناصر
الحياة فى الطبيعة، فيقول إن الحياة لا تقتصر على الإنسان، بل إنه كما فى
الإنسان حياة، ففى الحيوان حياة وفى النبات حياة وحتى الصخور الجامدة فيها حياة،
فلا بد من إقرار السلم بين كل الأحياء فى الطبيعة، واستبعاد العنف، لإمكان التعايش
بين الكائنات فى الطبيعة (إلا أن العنف يكون أحيانا وسيلة الدفاع التى لا مهرب
منها).
كما أن تحذيراته المشددة
وتهديداته للأميريكيين بأنهم إذا لم يلتزموا بأخلاقيات وحكمة التعامل مع الطبيعة
فإن حضارتهم ستلقى مايتنظرها من شر (عدم الأخذ فى الاعتبار هذه التحذيرات قد يكلف
الكثير فى التكاثر البيئى والإنسانى الذى يطغى اليوم على العالم)
لقد كان سياتل بمثابة منشئ
الجسور بين عالم يستسلم وآخر ينمو، بين معرفة وحكمة تعكس خلاصة تجارب دامت لآلاف
السنين، وأخرى ناشئة وغير راسخة. ينشئ جسورا بين مغامرة بدخول حرب انتحارية وسلام
يضمن مجرد البقاء على قيد الحياة. جسورا بين اليأس والأمل، بين الفناء والتسامى.
كان سياتل رجلا محاربا
شجاعا قوى البأس والشكيمة، وله من الحكمة مايؤهله لأن يحسن الاختيار فى المواقف
العصيبة بين سلوك مسلك الحرب والمراهنة برجاله أو الاستسلام لتجنب العنف الذى تليه
الهزيمة المحققة. فلم يختر الاستسلام إلا لأنه أدرك أن الحرب خاسرة، وهو ابن ميدان
يعرف معنى خسارة الأرواح، ففضل اختيار الإبادة السلمية والانقراض عبر سنوات، على
الدخول فى حرب يخسر فيها الرجال وتموت فيها النساء ويتشرد الأطفال، وتصبح نهاية
شديدة المأسوية.
بدأ سياتل حياته بالفنون الكهنوتية المتقدمة، فاكتسب
خبرة ومعرفة وحكمة جعلت منه شخصية نبوية ذات بصيرة حادة ونبوءات صادقة. ويجدر بنا
هنا أيضا الإشارة إلى أن أصل اسم سياتل فى لغته ينطق سيى – أهث، ويرجح البعض أن كلمة "سير - Seer بمعنى"رجل متبصر" فى الإنجليزية
قد اشتقت من الجزء الأول لاسم سياتل.